30 November 2025

شهدت السنوات الأخيرة تزايدًا حادًا في معدلات العنف الواقع على النساء في مصر، واتساعًا في أشكاله بين المجالين الخاص والعام، في ظل بنية اجتماعية وثقافية تُعيد إنتاج هذا العنف بدلًا من مواجهته. ورغم تصاعد النقاش العام—واقعيًا ورقميًا—حول حماية النساء، إلا أن الواقع القانوني يكشف عن فجوة عميقة بين ما يُطرح من خطابات حماية وما تُنتجه القوانين فعليًا من آثار. فداخل قانون العقوبات نفسه، لا تزال هناك نصوص راسخة تُسهِم بشكل مباشر في شرعنة العنف، وتخفيف العقاب، وتبرير الاعتداءات، وإعادة إنتاج السلطة الأبوية داخل الأسرة والمجتمع والمؤسسة القضائية.
تكمن خطورة هذه النصوص في أنها لا تتعلق بسوء تطبيق أو اجتهاد خاطئ، بل بفلسفة تشريعية كاملة تُعامل النساء بوصفهن موضوعًا للوصاية لا مواطنات كاملات الحقوق. فالمواد التي تمنح الرجل حق "التأديب"، أو تسمح بقتل النساء بذريعة الشرف، أو تخفف العقوبات بدافع الانفعال، أو تراقب أجساد النساء وسلوكهنّ في المجال العام، ليست استثناءً عارضًا، بل جزءًا من بنية تشريعية تُرسّخ مفهومًا واضحًا: أن أمن الرجال الاجتماعي أهم من حياة النساء وكرامتهنّ وسلامتهنّ الجسدية.
ورغم إدخال بعض التعديلات التشريعية خلال السنوات الماضية، وسن قوانين تبدو في ظاهرها موجهة لمناهضة العنف أو حماية النساء من الانتهاكات، إلا أنها تظل مواد مُجزّأة ومحدودة التأثير، تقف عاجزة أمام قوة النصوص الأبوية الأقدم والأعمق رسوخًا داخل القانون نفسه. وتظهر المفارقة بوضوح حين تتجاور مواد تُجرّم العنف مع أخرى تسمح بتبريره أو إسقاطه، فيكشف ذلك أن فلسفة التشريع المصرية ليست مبنية على رؤية دستورية واضحة لمبدأ عدم التمييز، بل على خليط غير متسق من محاولات إصلاح جزئية من جهة، وبنية أبوية مترسخة من جهة أخرى.
من هذا المنطلق، يأتي هذا المقال—امتدادًا لخطاب حملة عدالة مش رأفة—لتقديم قراءة نسوية نقدية لست مواد رئيسية في قانون العقوبات المصري. لا باعتبارها نصوصًا منفصلة، بل بوصفها مفاتيح تكشف كيف يتحول القانون إلى آلية تُطبع العنف الواقع على النساء، وتُعيد إنتاج اللامساواة، وتُقوّض العدالة ذاتها حين يتعلق الأمر بالنساء. فهذه المواد تكشف كيف يُستخدم القانون داخل المنازل عبر مفهوم “الحقوق الشرعية”، وفي القضاء عبر تخفيف العقوبات، وفي المجال العام عبر تجريم الأجساد والسلوكيات، ليُنتج منظومة متكاملة تُشرعن العنف بدلًا من مناهضته.
تُشكّل المادة (7) إطارًا عامًا يسمح بإدخال مفهوم «الحقوق الشرعية» إلى المنظومة الجنائية، ورغم أنها لا تُستخدم عادةً كسبب مباشر للإعفاء من العقاب، إلا أن غموضها يخلق بيئة تشريعية واسعة يمكن من خلالها تمرير الأعراف الأبوية بوصفها مرجعيات قانونية في قضايا العائلة، والولاية، والوصاية، والعلاقات الأسرية. فعدم تعريف المشرّع لماهية هذه «الحقوق الشخصية المقررة في الشريعة» يجعل من المادة نصًا مرنًا، يُستخدم عمليًا لترجيح العرف على النص الجنائي كلما تعارضت حماية النساء مع ما يعتبره المجتمع «حقًا شرعيًا».
وتتضاعف خطورة هذا الغموض في السياقات الريفية والقبلية، حيث تتحكم العائلة الممتدة والقبيلة في مصائر النساء، وتُقدَّم السمعة على الحق في التقاضي. هنا يصبح النص القانوني بوابة رسمية لتغليب الأعراف على القانون، سواء أمام المحاكم أو داخل المجالس العرفية التي تُسقط حق النساء في الإبلاغ والتقاضي ضد الزوج أو الأب. والنتيجة منظومة عدالة مزدوجة: قانون وضعي يقف جنبًا إلى جنب مع منظومة شرعية غير مُعرَّفة، ما يؤدي إلى تضارب في الأحكام ويقوّض مبدأ سيادة القانون.
وعمليًا، تتحول المادة (7) إلى مظلة تُشرعن العنف الأسري باعتباره «تأديبًا شرعيًا». ففي العديد من القضايا، يُعامل اعتداء الأب أو الزوج بوصفه ممارسة لحق مشروع، بينما تُدان النساء على الأفعال نفسها باعتبارها اعتداءً أو خروجًا على الطاعة. هذا التفاوت يفضح التحيز البنيوي في تطبيق العدالة، ويُظهر كيف تُحصّن المادة السلطة الأبوية داخل الأسرة، فتُعيد إنتاج تصور يعتبر عنف الرجل «حقًا طبيعيًا» يستند إلى الشرع.
وتُسهِم المادة أيضًا في إدخال كامل منظومة "الحقوق الشرعية" بما تحمله من سياقات فقهية وأبويه إلى المجال الجنائي، فتُعيد إنتاج مسائل تُنظّمها قوانين الأحوال الشخصية مثل الولاية، والوصاية، وتعدد الزوجات، والحقوق الإنجابية، داخل فضاء العقاب نفسه. وهذا الدمج بين التشريع الديني والجنائي لا يحمي الضحايا، بل يُرسّخ سيطرة الرجل ويضاعف هشاشة النساء داخل الأسرة والمؤسسات.
وبهذا لا تكمن خطورة المادة (7) في غموض صيغتها فحسب، بل في استخدامها الفعلي كجزء من منظومة تُمكّن العنف وتُعيد إنتاجه. فالقانون الجنائي الذي يُفترض أن يكون حائط حماية للنساء يتحول إلى أداة تُطبع مع العنف، وتُشرعن التمييز، وتُثبّت الهيمنة الأبوية داخل المجالين الخاص والعام. ونتيجة لذلك، يضعف مسار العدالة للنساء والأطفال، وتتكرس ثقافة الإفلات من العقاب تحت غطاء «الحقوق الشرعية».
تُعد المادة (17) من أكثر النصوص القانونية التي يُعاد توظيفها لترسيخ التسامح مع العنف الواقع على النساء في القضاء الجنائي. فهي تمنح القضاة سلطة تقديرية واسعة لتخفيف العقوبات عند تقدير "ظروف الجريمة"، وهي سلطة لا تتعارض في أصلها مع مبادئ العدالة الجنائية، غير أن ممارسات التطبيق تكشف عن اتجاه منهجي لاستخدامها لصالح الجناة الذكور تحديدًا في قضايا العنف الواقع على النساء. وهكذا تتحول "الظروف المخففة" إلى غطاء قانوني يسمح بتبرير العنف داخل المجال الخاص، في ظل غياب رؤية نسوية أو حساسية جندرية لدى المؤسسة القضائية.
وتزداد خطورة المادة في سياق قضائي يهيمن عليه القضاة الرجال، المتأثرون بمنظومة ثقافية تُقدّس الشرف الذكوري وتُحاكم النساء من منظور أخلاقي محافظ. وبذلك تتحول السلطة التقديرية إلى مساحة مطاطة تُدمج من خلالها الأعراف الأبوية داخل القانون، فتُقبل ذرائع مثل “الغضب”، “الانفعال”، “الغيرة”، أو “استفزاز الشرف” كأسباب مخفِّفة لجرائم القتل أو الضرب أو العنف الجنسي عندما يكون الجاني رجلًا. أمّا في الحالات المماثلة التي ترتكب فيها نساء أفعالًا ناتجة عن علاقات عنف ممتدة، أو تحت تهديد، أو في سياقات تمييز واعتداء مستمر، فلا تُعامل الظروف نفسها باعتبارها أسبابًا مخفِّفة، ولا تُمنح النساء أي اعتراف بظروفهن الاجتماعية أو النفسية، رغم تشابه السياق أو حتى تفاوت الضرر الواقع عليهنّ.
وقد أدّى هذا التطبيق الانتقائي إلى تخفيف عقوبات مرتكبي جرائم قتل النساء في سياقات تُعرف اجتماعيًا باسم "جرائم الشرف"، مما يجعل المادة (17)، في الواقع لا في النص، الأداة الأهم داخل القانون المصري التي تُستعمل بصورة منهجية لإنتاج عقوبة مخففة أو شبه معدومة لقتلة النساء. وهذا يكشف قبولًا ضمنيًا داخل القضاء لفكرة أن "شرف الرجل" قيمة أعلى من حياة النساء، بل وهي مسؤولية النساء بالأساس، وأن حماية هذا الشرف تستحق الرأفة القانونية. بل وأعطى للرجال بابًا مفتوحًا لممارسة الانتقام والعنف الواقع على النساء، وإلصاقه بشائعات وخطابات واهية حول سلوك النساء. مما جعل حيوات النساء رهن كلمات وأفعال يتم تدبيرها من قبل الرجال، وبالاستعانة بهيمنة المجتمع الأبوي، والرأفة القضائية، تٌمرر الجرائم، وتعيش النساء حياة بدون حرية أو إرادة حقيقية.
ولا يقتصر الأمر على جرائم القتل؛ فالمادة تُستخدم أيضًا لتخفيف عقوبات الاغتصاب والاعتداء الجنسي عبر تبريرات مثل "ندم الجاني أو غياب السابقة الجنائية"، من دون مراعاة حجم الضرر الجسدي والنفسي الواقع على الناجيات، في تكرار واضح للأولويات التي تنحاز لمستقبل الجاني بدل حق الضحية في العدالة.
هكذا تتحول المادة (17) من آلية استثنائية لضبط العقوبة إلى أداة ممنهجة لتطبيع العنف الواقع على النساء، وإضعاف الردع، وزعزعة الثقة في قدرة النظام القضائي على حماية النساء. فحين تُخفف العقوبات بشكل متكرر في جرائم القتل والضرب والاعتداء الجنسي، يصبح القانون ذاته شريكًا في إعادة إنتاج ثقافة الإفلات من العقاب، ويبعث برسالة مجتمعية واضحة مفادها أن العنف الواقع على النساء قابل للتسامح وربما التبرير، ويُمكن الإفلات من عقوبته، كما يُرسخ في نفوس المواطنات المصريات أفكار ومعتقدات مفادها أن القانون لن يكون منصف لهنّ، وأن حياتهنّ ليس لها ثمن، فهنّ غير محميات، وغير مرئيات كمواطنات لهنّ حقوق المواطنة الأساسية.
تُشكّل المادة (60) ترخيصًا قانونيًا مُباشرًا لممارسة العنف الواقع على النساء تحت غطاء الشرعية الدينية، إذ تمنح حصانة غير معلنة للجُناة من داخل الأسرة عبر عبارتين فضفاضتين: "النية السليمة" و"حق مقرر بمقتضى الشريعة"، دون أي تحديد قانوني دقيق لهما. ونظرًا لهذا الغموض، تتحول المادة إلى أداة فعلية تُتيح للذكور داخل الأسرة ممارسة العنف الجسدي والنفسي والجنسي باعتباره امتدادًا لحق شرعي، بينما تُحرم النساء من الحماية، بل ومن الاعتراف بالعنف كجريمة من الأساس.
وتُستخدم المادة على نطاق واسع لتبرير الضرب والتعنيف بوصفه "تأديبًا"، و في كثير من القضايا، أدى هذا التفسير إلى تخفيف العقوبة أو تغيير وصف الجريمة، حتى في وجود إصابات خطيرة أثبتها تقارير الطب الشرعي. حيث يدفع الجاني بأنه مارس حقًا مشروعًا مُقررًا له بمقتضى الشريعة، بينما يتبنّى بعض القضاة هذا التفسير الأبوي المغلّف بالشرع فيُخففون العقوبة بذريعة "حسن النية" أو يمتنعون عن العقاب على اعتبار أنها ليست جريمة. وهكذا ينتقل ميزان العدالة من تقييم الفعل إلى تفحّص نوايا الجاني، وهي عملية يهيمن عليها تقدير قضائي بشري، يتأثر مباشرة بمعتقدات أبوية راسخة، ويخلق أسوأ الممارسات التي يتحول فيها أجساد وأرواح النساء إلى مساحة وصاية ورقابة وعقاب.
وتتجلى خطورة المادة بصورة أشد حدة في قضايا الاغتصاب الزوجي، وهي جريمة لا يُعرّفها القانون المصري ولا يُجرّمها حتى اليوم، إذ تُستخدم المادة لتبرير"حق الزوج الشرعي" في جسد زوجته، ويُعامل رفض النساء للعلاقة كفعل غير مقبول اجتماعيًا ودينيًا. وفي ظل صعوبة إثبات عدم الموافقة طبيًا وقانونيًا، وتحت ضغط الأعراف التي تجعل "طاعة الزوج" معيارًا للأخلاق، يُصبح الاغتصاب الزوجي جريمة بلا اعتراف، وبضحية بلا حق في الحماية، البوح، أو التقاضي.
ولا تقتصر آثار المادة على الإعفاء من العقاب فقط ، بل تُسهم أيضًا في ترسيخ سلطة الرجال على أجساد نساء الأسرة باعتبارها سلطة شرعية، مانحة الأب أو الزوج أو الأخ أو العم أو أي رجل في العائلة صلاحية "التأديب" دون رقابة قانونية فعلية. بل حتى الجرائم التي تُخلّف إصابات بالغة تُعامل غالبًا كـ"جنح ضرب" بسيطة، ما دام العنف يُفهم ضمن إطار الشرعية الدينية لا كاعتداء على السلامة الجسدية والكرامة الإنسانية.
وبهذا، تتحول المادة (60) من نص يُفترض أنه يحمي ممارسة الحقوق المشروعة إلى أداة فعّالة لترسيخ الهيمنة الأبوية داخل الأسرة، وتغذية ثقافة الإفلات من العقاب في جرائم العنف الواقع على النساء. فهي لا تكتفي بتبرير العنف، بل تُعيد كتابته كحق، وتحوّل النساء داخل المنظومة القانونية ذاتها إلى ممتلكات خاضعة للوصاية والرقابة، مستحقات للعقاب إن رفضنّ هذا التمييز، ومحرومات من الحد الأدنى لضمانات العدالة الجنائية.
تُعد المادة (237) واحدة من أخطر المواد التي تُشرعن العنف الواقع على النساء في القانون المصري، إذ تمنح الزوج الذي يقتل زوجته متلبسة بالزنا عقوبة مخففة لا تتجاوز الحبس، بدلًا من العقوبات المشددة المقررة لجرائم القتل. ويُكرّس هذا النص تمييزًا قانونيًا صريحًا على أساس النوع الاجتماعي، يجعل حياة النساء أقل قيمة في ميزان العدالة، باعتبارها ثمنًا مقبولًا لحماية سمعة الرجل.
تعمل المادة (237) عمليًا كأساس قانوني يُستخدم لتخفيف العقوبات في الجرائم التي تُسمّى اجتماعيًا "جرائم الشرف". ففي الممارسة، يتعاطف بعض القضاة مع ما يسمونه "الانفعال المفاجئ" أو "الحالة النفسية الطارئة" للرجل الذي "يضبط" زوجته، حتى لو لم يكن هناك ضبط حقيقي. وبذلك تتحول المادة إلى بوابة للإفلات من العقاب في جرائم قتل النساء، إذ يكفي الظن أو الشائعة أو الرغبة في التخلص من المرأة لتقديم الحادثة باعتبارها دفاعًا عن الشرف.
لكن خطورة المادة لا تقف عند هذا الحد؛ فهي فتحت الباب أمام أنماط مُروّعة من الانتقام من النساء، حيث استخدم بعض الرجال المادة كأداة للابتزاز والتلفيق والتعذيب. فقد شهدنا جميعا خبر "دفَع زوجٌ إحدى النساء لشخصًا آخر لاغتصاب زوجته ثم بلّغ عنها ليحصل على دليل "تلبس" ، فتتنازل المرأة عن حقوقها الشرعية، حيث كانت بينهما خلافات زوجية، وكان يرغب هو بالتزوج بأخرى" وأودت تلك الجريمة بحياة الضحية. وفي حالات أخرى، لجأ بعض الأزواج إلى تلفيق وقائع أو ترتيب مواجهات مُصطنعة كي يخلقوا "مشهد التلبس" الذي تفتحه المادة كشرط للقتل المُخفف. هذه الانحرافات لا تعكس فقط سوء استخدام المادة، بل تكشف عن مدى العنف الانتقامي الذي شرعنته، ومدى ما منحته من أدوات للرجال لإخضاع النساء أو عقابهنّ أو التخلص منهنّ بلا تبعات قانونية تُذكر.
ولم يقف أثر المادة عند حدود الأسرة؛ بل تحوّلت في بعض المناطق الريفية والمحافظات الجنوبية إلى آلية تُمارس عبر "سلطة موازية للقانون"، حيث يتصرف الأقارب الذكور كمحاكم عرفية تصدر أحكام الإعدام على النساء باسم الشرف. مستندين إلى يقين راسخ بأن القضاء الرسمي سيعاملهم برأفة أو يخفف العقوبة إلى أقصى حد. وهكذا تنتج دائرة مُغلقة من الإفلات من العقاب تُشجع على استمرار القتل، وتمنح الرجال سلطة مطلقة على حياة النساء، لا باعتبارها إنسانًا، بل باعتبارها ملكية عائلية يمكن التخلص منها عند أول شبهة.
ولا يقتصر الخطر هنا على التمييز ضد النساء، بل يمتد إلى إعادة تعريف القتل نفسه. فعندما تكون الضحية من النساء، يصبح القتل، في ظل المادة، فعلًا "يمكن تفهمه" إذا ارتبط بخطاب الشرف، ويتحول من جريمة إلى "واقعة لها مبرراتها"، الأمر الذي يهدم أحد أهم ركائز العدالة: الحق في الحياة.
وبذلك يتحول القانون الجنائي من أداة لحماية الأفراد إلى آلية أبوية تُعطي الأولوية لسمعة الرجال على حياة النساء، وتُرسّخ ثقافة "القتل كوقاية"، وتحوّل بعض المجتمعات المحلية إلى ساحات مفتوحة لإعدام النساء تحت ذرائع أخلاقية هشة، وكأننا في زمن وأد الفتيات.
إن المادة (237) لا تمنح فقط تخفيضًا للعقوبة، بل تُعيد إنتاج منطق كامل يُشرعن العنف الواقع على النساء، ويخلق مناخًا يسمح بالانتقام، والتلفيق، والقتل، ودفن مئات القصص التي لم تصل يومًا إلى القضاء أو الإعلام لأن أصحابها رجال يعرفون جيدًا أن القانون في صفهم.
كما تٌرسخ المادة للتمييز بين النساء والرجال في العقوبات حيث أنها حين تُقرأ مع المادة (277) التي تُدين الزوجة بالزنا داخل وخارج منزل الزوجية، بينما لا يُدان الزوج إلا إذا زنى داخل منزل الزوجية. هذا التباين الفج يعكس رؤية أبوية متجذرة تُعامل نفس الفعل بصورة مختلفة بحسب فاعله، وتحوّل الخيانة الزوجية إلى جريمة كبرى تٌقتل من أجلها النساء بدون خوف من العقاب، وإلى “زلة” أو “نزوة” إذا ارتكبها الرجال، ويتم التسامح معهم، بل ويتم لوم الزوجات اللواتي لا يتسامحنّ مع هذه الخيانة.
تُجسّد المادة (274) أحد أبرز النصوص التي تعكس التمييز القائم على النوع الاجتماعي في قانون العقوبات المصري، إذ تربط مصير النساء بقرار الزوج، وتُحوّل العقوبة الجنائية إلى أداة أبوية للابتزاز والتهديد والوصاية، فقد تُعامل الزوجة كطرف مُدان يجب معاقبته، بينما يُمنح الزوج سلطة كاملة على تحريك الدعوى أو سحبها، أو إيقاف العقوبة متى شاء، وكأن الأمر يتعلق بملكية شخصية لا بكرامة وحقوق إنسان.
ويزداد التمييز عندما نقارن هذه المادة بالمادة (277)، التي تُجرّم زنا الزوج فقط إذا وقع داخل منزل الزوجية، ما يعني أن القانون يرى خيانة الرجل خارج المنزل "شأنًا خاصًا" لا يُعرّضه للعقاب، بينما تُفرض على النساء رقابة دائمة داخل وخارج المجال الخاص. هذا التفاوت لا يعكس فقط ازدواجية، بل يُعيد إنتاج تصورًا أبويا يرى أجساد النساء مجالًا للمراقبة والعقوبة باسم الشرف، ويمنح الرجل بإطار قانوني مساحة للإفلات من المسؤولية.
وعندما يُشترط أن تُرفع الدعوى فقط من الزوج، فإنه يحصل على سلطة شبه مطلقة في تحديد مصير زوجته القانوني والشخصي، ويُصبح النص القانوني أداة تهديد يمكن استخدامها لتأديب النساء أو ابتزازهن مالياً أو نفسيًا، بل وسيفًا موجهًا نحو حقوقهن في الطلاق، الحضانة، وغيرها من الحقوق. كما أنّ المادة تفتح الباب أمام دعاوى كيدية أو مبنية على شائعات، في سياقات مُحافظة أو قبلية تختلط فيها السمعة بالعار، إذ يمكن لشائعة أن تؤدي إلى حبس الزوجة أو اقتلاع حقوقها القانونية، أو قتلها ولن يعرف أحد مصيرها أو يُحاسب من تسبب في ذلك.
إن الإبقاء على المادة (274) لا يعني فقط استمرار تجريم الزنا بشكل تمييزي، بل يعني ترسيخ تصور قانوني يرى النساء خاضعة لسلطة الزوج، ويمنح له حقًا “فيتو” على حريتها وسلامتها. وهذا يتعارض بوضوح مع مبادئ العدالة والمساواة والكرامة والاستقلالية وحقوق الإنسان، ويُحوّل القانون من أداة لحماية الأفراد إلى آلية أبوية تُهيمن على كينونة النساء وحيواتهنّ.
تُعد المادة (278) من أكثر النصوص استخدامًا لتقييد حرية النساء في المجال العام، إذ تعتمد على مصطلحات فضفاضة وغير مُعرّفة مثل "فعل فاضح" و"مخل بالحياء"، ما يجعل تطبيقها خاضعًا للذوق العام السائد ومعايير أبوية تُحدد ما هو "مقبول" للنساء. وهكذا يتحول النص من أداة يفترض أن توفر حماية إلى وسيلة لضبط سلوك النساء وإخضاع أجسادهنّ للرقابة الأخلاقية.
وتكشف الممارسات القضائية والأمنية عن أنها تُستخدم أساسًا ضد النساء من الطبقات المتوسطة والفقيرة، خصوصًا الناشطات في الفضاء الرقمي، حيث يُوجَّه الاتهام لهنّ وفق معايير لا تُطبَّق على الرجال الذين يقدمون محتوى مماثل. هذا يوضح أن المادة لا تُطبق على الفعل ذاته، بل على الجسد الذي يؤديه؛ أي أنها تُجرّم النساء لكونهنّ نساء في كثير من الأحيان.
ويمتد أثر المادة إلى المجال الخاص، إذ تُعاقَب النساء بسبب محتوى نُشر دون موافقتهنّ، فيُحاسبنّ على "الفعل" بدل محاسبة من اعتدى على خصوصيتهنّ. وتؤكد القضايا الشهيرة التي استُهدفت فيها شابات مثل هدير عبد الرازق، موكا، سوزي، حنين، مودة وغيرهنّ، أن المادة تُستخدم لفرض وصاية أخلاقية مُقترِنة بالعقاب، بذريعة حماية "القيم الأسرية"، بينما لا تُعامل المحتويات ذاتها المنتَجة من رجال بنفس التشدد.
وهكذا تتحول المادة (278) إلى أداة لضبط السلوك الجندري وإعادة إنتاج الأدوار الاجتماعية التي تُقيد حرية النساء داخل أطر "الاحتشام" و"الحياء". وباسم الأخلاق، يتدخل القانون في الملابس، الحركة، الكلام، والتعبير، مُطبعًا العنف الاجتماعي الواقع على النساء، ومعززًا الهرم الأبوي الذي يجعل أجسادهنّ ووجودهنّ في المجال العام محل مساءلة دائمة.
لا تعمل هذه المواد بصورة منفصلة، بل تتشابك لتُشكّل منظومة تشريعية تُطبِّع العنف الواقع على النساء على المستويين القانوني والاجتماعي. فالمادتان (7) و(60) تُدخلان الأعراف والتفسيرات الشرعية في قلب القانون الجنائي، وتُشرعنان العنف الأسري باعتباره “حقًا شرعيًا”، وتمنحان الرجل سلطة أبوية شبه مطلقة تحت غطاء “النية السليمة”. ثم تأتي المادة (17) لتمنح القضاة مساحة واسعة لتخفيف العقوبات على الجناة الذكور تحت ذريعة “الظروف المخففة”، بينما تُقدّم المادة (237) إطارًا صريحًا لتقنين قتل النساء بذريعة الشرف، وتُوسّع المادة (278) الرقابة الأخلاقية لتشمل أجساد النساء وسلوكهن في الفضاءين العام والرقمي. وتكتمل الحلقة عبر المادة (274) التي تمنح الزوج حق التحكم في مصير زوجته القانوني والاجتماعي من خلال انفراده بتحريك أو إيقاف دعاوى الزنا.
وعند النظر إلى هذه النصوص مجتمعة، يتّضح أن القانون لا يتعامل مع النساء بوصفهن مواطنات كاملات الأهلية، بل كأطراف خاضعة لرقابة الرجال داخل الأسرة والمجتمع والدولة. فبدل أن يكون القانون حاجزًا يحمي النساء من العنف، يصبح امتدادًا لهذه الرقابة ويمنحها شرعية قانونية. وبذلك تترسّخ منظومة تسمح بسيطرة الرجال على أجساد النساء ومساحاتهنّ وقراراتهنّ، سواء تحت مسمى “الحق الشرعي”، أو “الانفعال المفاجئ”، أو “الحياء العام”.
وتُعمّق هذه المواد تصورًا مفاده أن العنف الواقع على النساء أقل خطورة، أو أنه قابل للتسامح معه إذا ارتبط بالشرف أو الأخلاق. وهو ما يضعف الردع القانوني، ويعزز ثقة الجناة في الإفلات من العقاب، ويضع عبئًا نفسيًا وقانونيًا على النساء اللاتي يفكرن في الإبلاغ أو طلب الحماية.
كما تُنتج هذه المنظومة تفاوتًا منهجيًا في العدالة، إذ تُعامل الجريمة الواحدة بطرق مختلفة باختلاف جنس الجاني والضحية وطبقتهما وموقعهما الجغرافي. فالنساء التي تتعرض للاغتصاب الزوجي لا تجدنّ نصًا يحميهنّ، والنساء البعيدة عن المركز تُدفع إلى المجالس العرفية، ومن نُشرت صورها دون رضاها تُعاقَب بتهمة “الفعل الفاضح”، ومن تحاول النجاة من العنف الأسري تصطدم بقوانين الأحوال الشخصية، بينما يُخفف العقاب عن الرجل الذي يقتل زوجته بدعوى الشرف.
بناءً على ما سبق، لا تمثل هذه المواد مجرد “ثغرات” في القانون، بل تُشكّل شبكة متماسكة تُعيد إنتاج اللامساواة الجندرية داخل المؤسسة القانونية نفسها، وتحوّل القانون من أداة لتحقيق العدالة إلى منظومة تُطبِّع العنف، وتضعف الردع العام، وتُرسخ دائرة مستمرة من السيطرة الأبوية التي تُقوّض ثقة النساء في العدالة وفي إمكانية اللجوء إلى القانون للحماية.
تؤكد قراءة هذه المواد وتحليل منظومة التشريع الجنائي في مصر أن مواجهة العنف الواقع على النساء لا يمكن أن تُختزل في تعديل محدود لبعض النصوص، بل تتطلب إصلاحًا تشريعيًا شاملًا يُعيد تعريف علاقة الدولة بالنساء بوصفهنّ مواطنات كاملات، لهنّ الحق غير المشروط في الحياة والحرية والسلامة الجسدية. ويتطلّب هذا الإصلاح أولًا إلغاء المواد التي تُشرعن العنف والتمييز، مثل المواد (7)، (17)، (60)، (237)، (274)، و(278)، وإعادة صياغتها وفق معايير واضحة غير قابلة للتأويل الأبوي أو العرفي. كما يقتضي إصدار قانون موحّد شامل لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي، يتضمن تعريفًا صريحًا لأشكال العنف المختلفة، ومنها العنف الجسدي، النفسي، الاقتصادي، الاجتماعي، الجنسي، والرقمي في المجالين الخاص والعام، ويعترف بالعنف المركّب، ويٌجرّم كافة أشكال الانتهاكات ومنها، الاغتصاب الزوجي، ويحدد آليات الحماية والإبلاغ والتقاضي.
ويستلزم الإصلاح كذلك ضبط السلطة التقديرية للقضاة ومنع استخدام ذرائع مثل "الشرف، الغضب، أو الانفعال المفاجئ" لتخفيف العقوبات في جرائم العنف الواقع على النساء، عبر وضع معايير موضوعية ودليل إرشادي ملزم لتطبيق العقوبات في قضايا العنف الأسري والزوجي. كما يتطلب تعزيز الحماية الفورية للنساء المعرّضات للخطر من خلال تفعيل خطوط الإبلاغ العاجلة في جميع المحافظات، وإلزام أقسام الشرطة بالاستجابة السريعة، وتوفير مراكز آمنة ودعم نفسي–اجتماعي وقانوني أثناء مسار التقاضي.
ويشمل الإصلاح أيضًا إعادة هيكلة السلطة القضائية عبر رفع نسبة النساء في القضاء والنيابة، وفرض تدريب إلزامي على القضاة وأعضاء النيابة لفهم قضايا العنف القائم على النوع الاجتماعي وتأثير الأعراف الأبوية على العدالة. ولا بد من تطوير تعريفات قانونية دقيقة تحمي حرية النساء في الفضاء العام والرقمي، واستبدال مصطلحات فضفاضة مثل “الفعل الفاضح” و“الحياء العام” بصياغات لا تُستخدم لمراقبة أجساد النساء أو سلوكياتهنّ أو معاقبة تعبيرهنّ، مع تعديل قانون الجرائم الإلكترونية لضمان الحماية من التشهير والانتهاكات الرقمية دون استهداف النساء.
كذلك يجب منع احتواء القضايا داخل المجالس العرفية، وضمان تحويل كل حالات العنف إلى مسار قانوني كامل، وتوفير مسارات تقاضٍ آمنة للنساء، خصوصًا في المناطق الريفية والقبلية التي يُقصى فيها النساء من العدالة. كما يستوجب الإصلاح حماية النساء من الدعاوى الكيدية التي تُستخدم لتدمير حياتهن وسلب حقوقهن، وذلك عبر إلغاء تجريم الزنا بصيغته التمييزية الحالية أو إعادة صياغته بما يمنع استخدامه كأداة للابتزاز، السيطرة، أو تكريس الخضوع للعنف.
25 November 2023
Statement from the Feminist Organisations and Groups Usually, the global feminist movement is active during the sixteen-day campaign against Gender-Based Violence, which starts on the 25th of November, “the International Day of Eliminating Violence against Women,” and continues until “the Human Rights Day” on the 10th of December. To remember the struggle of the “Mirabal […]
25 November 2023
عادة ما تنشط الحركة النسوية عالمياً بحملات الستة عشر يوماً من النشاط لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي، والتي تنطلق يوم الخامس والعشرين من نوفمبر وهو “اليوم العالمي للقضاء على العنف ضد النساء”، وتستمر حتى “اليوم العالمي لحقوق الإنسان” ويوافق العاشر من ديسمبر من كل عام. ننشط في أثناء حملة ال16 يوماً عالمياً لنتذكر نضال […]